[ هذه المادة هي جزء من ملف خاص بعنوان "كبرت النكبة". وهو ملف متنوّع حول نكبة فلسطين تقوم "جدلية" بنشره.]
زرت مغارة شقبا في يوم حار، هناك عثرتُ على دوروثي غارود، عالمة الآثار البريطانية، كنت أبحث عن اكتشافاتها في فلسطين. دهشت خلال البحث من الأهمية التي تحتلها المغارة في علم الآثار ومن أهمية وادي نطوف الذي أسفلها. بعد عمليات التنقيب في المغارة أطلقت غارود على إحدى فترات العصر الحجري "الفترة النطوفية" نسبة للوادي وهي فترة تميزت بانتقال الإنسان من الصيد إلى الزراعة، وأصبح إسما مؤسسًا في علم الآثار.
عند البحث عن دوروثي غارود وصلت إلى موقع على الانترنيت فيه كامل أرشيفها من الصور: نحو 700 صورة.. توثق لكافة رحلاتها التنقيبية في الشرق. وجدت الباحثة باميلا سميث هذه الصور في باريس أوائل التسعينيات، بعد أن ساد الاعتقاد أنها مفقودة. إحدى الصور في هذا الأرشيف لفتت انتباهي، كُتب تحتها: دوروثي ويسرا من قرية إجزم 1934.
" فلاحة فلسطينية تلوح عليها إمارات الطول، بشنتيان تتسلقه الفراشات، جالسة على صخرة، تحتضن طفلا بشغف واضح وضحكة مطمئنة. وإلى جوارها على مقعد منخفض تتطلع إليهما امرأة جعداء الشعر بملابس أوروبية." هكذا يكتب الكاتب الفلسطيني محمد الأسعد حول الصورة الوحيدة ليسرا. ربما التقطت هذه الصورة في يوم الاستراحة من العمل في التنقيب، ربما يكون هذا هو اليوم الذي حققت فيه يسرا اكتشافا كبيرا في إحدى المغائر بالقرب من بيتها في قرية إجزم، وعلى إثره توطدت الصداقة بينها وبين دوروثي عالمة الآثار البريطانية القادمة إلى فلسطين في رحلة ثانية للبحث عن إنسان العصر الحجري.
بعد عدة مواسم من العمل أصبحت يسرا خبيرة في تمييز العظام، والأدوات الحجرية، وتحولت إلى مسؤولة عن فريق النساء الفلسطينيات اللواتي يعملن في الحفر والتنقيب والغربلة والفصل، اختارت غارود النساء الفلسطينيات في فريقها عن سابق قصد، بداية في قرية شقبا العام 1928 ثم في قرى جبل الكرمل بين الأعوام 1932 – 1936، وتغادر دوروثي غارود فلسطين لتصبح في العام 1939 أول أستاذة لكرسي علم الآثار في جامعة نيوهام، وتبقى يسرا في قريتها حتى العام 1948، تحل النكبة بقرى جبل الكرمل وتختفي آثارها ونكاد لا نجد ذكرها في ملفات أرشيف دوروثي جارود، لكن الباحثين المعاصرين يجدون يسرا في صورة وحيدة، ويعيدون إليها الفضل في اكتشاف الهيكل العظمي لأنثى إنسان النياندرتال في مغارة الطابون.
عادت يسرا إلى الحياة عبر هذه الصورة، وعرفنا أن يسرا حققت إنجازًا كبيرًا في تاريخ علم الآثار فعن طريق هذا الاكتشاف تأكد أن إنسان النياندرتال عاش في فلسطين ولا بد أنه جاء من أفريقيا. كانت فلسطين هي الجسر إلى بقية العالم كما فعل انسان الهمومو سابيانس، قضت يسرا باكتشافها على دلائل الحفريات السابقة أن إنسان النياندرتال عاش في أوروبا فقط.
بمرور الوقت تميّزت يسرا في البحث والتنقيب وأصبحت أفضل من يجيد التعرف على الفوارق بين النوعين البشريين، وحققت للفريق بقيادة دوروثي انجازات متعددة. يسرا الفلاحة الفلسطينية من قرية في جبل الكرمل تقود إلى جانب دوروثي أهم عملية تنقيب دون أن تعلم انها تدخل التاريخ. إحدى صديقات دوروثي التي أتت لزيارتها في جبل الكرمل كتبت: "لقد كانت غارود جادة حين اقترحت على يسرا الالتحاق بجامعة كيمبردج والدراسة في قسم الأثار، بعد الخبرة الكبيرة التي اكتسبتها". لا نعرف ماذا كان رد يسرا! هل وافقت، هل كانت أما لا تستطيع ترك أولادها؟ لكننا نعرف جيدا أنها تركت قريتها إثر النكبة وتركت لنا قصة عير مكتملة.
ربما لم نكن لنعرف عن وجود يسرا لولا أن تم العثور على صورة لها في يوميات وأوراق دوروثي غارود ضمن مئات الصور في صندوق منسي في زاوية من زوايا مكتبة باريس الوطنية، كانت الإشاعات المتداولة أن دوروثي أحرقت كل ما دونت وصورت قبل وفاتها في باريس عام 1968.
عادت يسرا إلى الحياة بهذه الصورة الوحيدة، لكن مصيرها غير معروف: متى ماتت وأين استقرت عائلتها بعد النكبة؟ ما هو اسم عائلتها؟ لم يجد أي من الباحثين في علم الآثار جوابًا حتى الآن، من كانت يسرا؟
[مقطع قصير من تصوير عالمة الآثار دوروثي غارود يظهر فيه سكان قرى جبل الكرمل يعملون في إزالة الأتربة من الحفريات في مغارة الطابونعام1931، وأيضًا مشهد لرجال يرقصون رقصة الدبكة المحلية]